عشرية ...وكتاب... ومراجعات عسيرة
الصغيّر الصالحي، الاستعمار الدّاخلي والتنمية غير المتكافئة:منظومة التهميش في تونس، الشركة التونسية للنشر وتنمية فنون الرّسم، طبعة ثانية، 2019، 719 صفحة، 40 دينارا
ISBN :9789938 405538
كفانا هياطا ومياطا ! لقد ملأ الصخب الفضاء العام طيلة عشرية كاملة فخرّب كل أشكال التواصل فيما بيننا على الصعيدين الفردي والجمعي. أظنّ، ونحن على مشارف عشرية جديدة، أنّنا في حاجة إلى أن نتوقّف عن الجري الجنوني وراء الأحداث... وراء الأحلام...وراء الأوهام.
العشرية
لا توجد حلول سحرية للخروج من هذا النفق ولست مِمّن يعتدون بدور المواعظ أو النصائح في هذا المجال وفي غيره من مجالات الحياة. غير أنّي لا املك إلاّ أن أستحثّ نفسي وأن استحثّ كل من يؤمن بدور الفكر في الشأن العام التونسي على ضرورة تقييم الحصيلة الفكرية لتلك العشرية الغريبة. فلنشغّل المرآة الخلفية بعد مرور الإعصار ولْنُمْعِنْ النظر في مدوّنتها الضخمة من كتب ومقالات وسير ذاتية. لقد حان، في تقديري، زمن المراجعات على كلّ الأصعدة. ومن المهمّ أن نشرع في هذا التمرين، كُلٌّ من موقعه وكُلّ حسب إمكاناته وقراءاته.
لكن عزيزي القارئ، قبل أن تأخذ المسافة الضرورية من الحصاد الفكري ل2011، هَيِّئْ جسدك بحركات رياضية إحمائية كأن تستنشق ،مثلا، هواء نقيا مِلْءَ الرئتين ثم تطلق بكلّ رباطة جأش زفرةً مسترسلة قوية قوّة الزئير. أعلَمُ جيّدا أنّنا، كمثقّفين، لم نكن في مستوى الحدث. بمعنى أوضح، لم يُسمعْ لنا صوت في 2011 ولم نسْتَأسِدْ في الدّفاع عن قيم الانتفاضة الشعبية التونسية. بل كان أغلبنا، بلغة ابن المقفّع، مغلوبا على أمره وقابعا ضمن المفعول بهم من فئة الثعالب والأرانب والجواميس . لكن لا بأس أن نحاكي، ولو قليلا، صولة الأسد. لِنَزْأرْ، يا أخي ! ولنُفْرِغْ صدورنا من ذلك النكد الضاغط المقيت الذي أفسد أمزجتنا وأذلّنا شرّ إذلال وشلّ فينا القدرةَ على النقد والتمييز!
الكتاب
في مجال الكتب والمنشورات، لن أنطلق في تقييمي من جرد دقيق وأكاديمي لقراءاتي. ليس لأنّ المقال لا يتّسع لذلك فحسب وإنّما أيضا كي لا أفسد على نفسي عفوية استذكار بعض الكتب التي أذكت فيَّ متعة التفكير وأحدثت، من وجهة نظري، اختراقات فكرية مهمّة في طرحها لقضايا الحكم في تونس.
يتصدّر هذه مجموعة النادرة كتاب المهندس صغير الصالحي ، الاستعمار الدّاخلي والتنمية غير المتكافئة، منظومة التهميش في تونس. لقد نوّه به العديد من الصحفيين إبّان صدروه سنة 2017 وأكّدوا على متانة توثيقه حول ظاهرة التنمية غير المتكافئة منذ الاستقلال. وأشادوا بدراسته الضافية(719صفحة) لأسباب هذه المعضلة وأثارها المدمّرة اقتصاديا وجغرافيا واجتماعيا بين 1956 و2011.
في الواقع، بقي في بالي هذا الأثر لأسباب أخرى لا تقل أهمّية عمّا أسلفت. فهو كتاب ليس ككلّ الكتب، ولن ألجأ لتوصيفه إلى تلك العبارات التي أفقدها المديح المريح معانيها مثل "التفّرّد" و"التميّز" وغيرها. إنّه ، بالأحرى، أثر مُرْبِكٌ بأتمّ معنى الكلمة. فبقدر ما يفيدك كاتبُه بزاده المعرفي الدّقيق فإنّه يثير فيك الحيرة من جرّاء التباين الجلي في خطابه بين التحليل والتقييم، بين سلاسة المنهج الذي توخّاه في شرح الظواهر الاجتماعية وربطها بالأحداث السياسية ربطا متينا من جهة، وبين حدّية مواقفه النقدية إزاء شخوص الدولة الوطنية لتلك الفترة.
لا أخفي، بَدْءًأ، أنّ كتاب الاستعمار الدّاخلي... قد أحدث تصدّعا محمودا في مسلّماتي السّياسية. كما أنّه فاجأني بسعة اطلاع صاحبه على تاريخنا الحديث والمعاصر وبقدرته على إعادة تركيب آليات الحكم تركيبا انتربولوجيا شاملا. فضلا عن إعجابي الكبير بجرأته إذ جاء صغيّر الصالحي إلى الكتابة الفكرية من خارج دائرة " أهل الفكر والقلم" التي تضم، كالعادة، أدباء وإعلاميين وأكادميين في الإنسانيات والعلوم السياسية والقانونية. لذلك، يعتبر مُنجَز الصالحي، من هذه الزاوية، اختراقا مهمّا من شأنه أن يوسّع مفهوم النخبة لتشمل مفكّرين من العلماء والأطبّاء والمهندسين والتقنيين وغيرهم.
إنّ اعتماد الصالحي، في مقاربته ل"لحالة التونسية"، على مفهوم " الاستعمار الدّاخلي" قد أحدث انزياحا كلّيا لم تشهده الدّراسات التونسية من قبل. كان جلّ المؤرّخين بعيد الاستقلال يرون في منظومة الحماية الفرنسية السّبب التاريخي والأساسي لغياب التنمية في البلاد. كما يعتبر المعاصرون منهم ظاهرة التخلف الحالي،أو في جانب كبير منها، امتدادا لاستعمار جديد وغير مباشر ومُعَولْم. أمّا خطابهم عن الأسباب الدّاخلية للتنمية غير المتكافئة، فكثيرا ما يركّز على أوجه التقصير لدى النخبة الحاكمة من غياب للحوكمة الرشيدة ومن محاباة مناطقية في ظل نظام سلطوي وقامع للحرّيات. يتقاطع كتاب الصالحي مع الخطوط العريضة لهذا المنحى العام، بل إنّه يؤكّده إذ وثّق فيه، بدقّة ودراية كبيرتين، أشكالَ الزبونية في عهدي بورقيبة والجنرال بن علي .
غير أنّ البون شاسع بين المقاربتين لأنّ الصالحي لم يكتف بنقد سياسة النخبة الحاكمة وإنّما اتجه رأسا إلى مساءلة الأرضية الفكرية والاجتماعية التي أفرزت رموز الحزب الدستوري وبُناةَ الجمهورية الأولى . كما بيّن الصالحي كيف تقاطع المنهج التحديثي في إدارة الدولة الجديدة بالموروث الحسيني السلطوي ليفرز فئة حاكمة ذات عقلية تمييزية لا تقلّ، في تعاملها مع المناطق الدّاخلية للبلاد التونسية حيفا واستعلاءً، عن الاستعمار الفرنسي. إنّ تحقيق الصالحي حول توزيع الثروة اجتماعيا ومناطقيا على مدى سبعين عاما يكشف عن"تواصل الهيمنة والاستغلال من قبل مجموعات محلّية بدل القوى الخارجية بعدما تحقّق الاستقلال" (ص. 39) واضعا بالتالي حدّا لذلك التمثّل التقليدي الذي لا يصوّر الاستعمار إلاّ في شكل احتلال خارجي و مباشر.
تتبيّن من خلال هذا الكتاب الضخم أن الاستعمار ظاهرة مركّبة لا تخلو من مُواربة، فهو كالقطار الذي يحجب قطارا آخر أو كالدمية الرّوسية التي تحمل في داخلها دمى أخرى. فيما يتّصل بالحالة التونسية، لقد أخفى الاستعمار الفرنسي عن أنظار الباحثين استعمارا داخليا قديما ما فتئ ينتعش من جديد بعيد الاستقلال ثمّ تفاقم ليشكّل، لا سيما في عهد الجنرال، منظومة مكتملة الأركان. استنادا إلى الوثائق والمعطيات التاريخية، يؤكّد الصالحي أنّ المستعمر المحلّي في تلك الفترة من تاريخ تونس المستقلّة كان يستمدّ هيمنته من الحماية السابقة. ولكنّه كان يَدين أيضا بموقعه المتميّز للموروث الحسيني المتمثّل أساسا في إدارة الشّأن العام عن طريق الولاءات. يرى الصغير الصالحي أن بورقيبة قد استصلح طرائق حسينية في الحكم والتسيير وأعاد تأهيل الكثير من موظّفي المخزن في دواليب الدولة. بعد ذلك، استبدلت الحكومات المتعاقبة تدريجيا مقياسي الكفاءة والاستحقاق بمنظومة الامتيازات الفردية والمناطقية فتعثّر مشروع التحديث الشامل منذ العشريات الأولى. ثمّ تأكّد فشل التنمية المتكافئة بين الفئات والجهات حين تفاقمت ظاهرة "التهميش" في البلاد وتكاثرت في ربوعها "مناطق الظل". ولمّا عجزت الدولة عن تعديل منهاجها، جاهرت بتمييزَها للفئات الموالية للنظام بدعوى الكفاءة وحابت مناطق على حساب مناطق أخرى بدعوى الجدوى الاقتصادية إلى أن جاءت، في 2011، الانتفاضة الشعبية من أعماق البلاد كردّ حتمي" على الميز الجهوي وعلى الفساد وكانت "الكرامة" من عناوينها"(700).
تأكّد لنا اليوم أنّ الدولة الوطنية قد فشلت في تصدّيها لعادات المخزن الحسيني التي تسلّلت من جديد إلى أروقة الحكم وأحْيت، من تحت الرماد، منظومة "الاستعمار الدّاخلي" ذي الطابع العائلي والفئوي والمناطقي. كما كان للمنهج الحداثي المتعثّر دور في تقوية سلطوية النّظام. ذلك هو المضمون الذّهبي للكتاب بصرف النظر عمّا علق به من أحكام قطعية أطلقها الصالحي هنا وهناك إزاء شخوص النخبة الحاكمة من 1956 إلى ما بعد2011.
رغم تحرّيات الصالحي العديدة، فإنّ نقده لدولة الاستقلال لا يخلو من شطط إذ يخلص في تقييمه للمنجز البورقيبي قائلا: " موضوعيا لم يكن بورقيبة مؤسّسا للمنظومة المخزنية، بل انخرط فيها، كما تواصل اشتغالها بحكمه ولا نستبعد استمرارها حتّى في مناخ من الليبرالية السياسية"(704). صحيح أن بورقيبة قد أدمج بعض موظفي المخزن الحسيني في الإدارة الجديدة ،ولكن هل يجوز أن نؤوّل اليوم ما كان يعدّ في 1956 ضرورة مرحلية كدليل وحجّة على انخراط بورقيبة في المنظومة القديمة ؟
كان بورقيبة على بيّنة من خطر المخزن على الدولة الناشئة وكان قد تبنّى في التصدّي له تكتيكه المعهود( سياسة المراحل). وطبقا لذلك، اعتمد تحديثا تدريجيا في الإدارة والتعليم. عندما يذكّر الصالحي أن الحبيب بورقيبة يتحدّر من عائلة مخزنية وانّه أودع الإقامة العامة مطلبا للحصول على وظيفة قايد إبّان رجوعه من فرنسا وأنّه كثيرا ما تعامل تعاملا إيجابيا مع البايات، إنّما يسعى إلى التدليل على أنّ مناهضة بورقيبة للبيليك لم تكن مناهضة مبدئية. ويبدو بورقيبة، كما يصفه الصالحي، في صورة السياسي الانتهازي أو المهادن لأساليب الحكم القديمة ورموزه. كان الصالحي سيكون أكثر وفاء لمنهجه الأساسي في هذا الكتاب لو نسّب من مواقفه السلبية إزاء الحركة الوطنية. إذ يبدو لي أنّ بعض فصول كتابه تكشف عن مدى إشكالية الصّراع بين الموروث والمُستَحدَث وتشهد، بشكل غير مباشر،على أنّ منظومة البيليك كانت أعتى وأشد من حركة التحديث التي انتهجها قادة الجمهورية الأولى ناهيك أن "مركزية الدولة" التي اعتمدوها لتوحيد شتات التونسيين تحوّلت تدريجيا إلى آلة لتكريس نظام امتيازات اعتباطي ومجحف، وقد أصاب هذا النظامُ الهجينُ الجمهوريةَ في المقتل حيث صبغ الصرامة الحداثية( اليعقوبية) في التسيير بضروب شتّى من الصلف الحسيني القديم.
المراجعة العسيرة
لا شكّ أنّ منظومة المخزن كانت، ولا تزال، تثير حفيظة التونسيين. ناهيك أنّ كلمة "المخزن" تُستعمَل حدّ الساعة لاتهام عائلات ودوائر متنفّذة سياسيا واقتصاديا بالتواطؤ التاريخي مع الحاكم على حساب المجموعة الوطنية. لكن إذا ارتأينا أن نرتقي بكلمات"المخزن" و"المخزنية" و"الاستعمار الداخلي" و"البيليك" إلى منزلة المفاهيم الاصطلاحية، فمن الضروري أن نخلّصها من دلالاتها التشهيرية والسّجالية لأنّ الذهنية المخزنية تحيل اليوم، في جوهرها، إلى كل الممارسات المعادية للمُوَاطَنَة. فهي موروث سلوكي وقيمي كان في السّابق أكثر استشراء لدى عائلات وقبائل مقرّبة من عرش البايات الحسينيين ولكنّه "تَدَمَقْرَطَ" اليوم وترسّخ أثرُه في فئات مجتمعية متعدّدة( عائلات ميسورة، تشكيلات مهنية، تكتّلات مناطقية، حركات فكرية محافظة وأخرى ليبرالية إلخ...). كما أنّ مصادر النفوذ لدى هذه المجموعات الزبونية قد تنوّعت حيث اكتسبت وجاهة وجاها باسم الدين أو المال أو الحداثة المغشوشة أو التنظّم النقابي أو الانتماء السياسي .
لذلك تشكل قراءة الصالحي لتاريخ تونس الحديث عبر مفهومي "المخزن" و"الاستعمار الدّاخلي" مدخلا أكثر التصاقا ب الحالة التونسية وأكبر نفاذا إلى مكامن الدّاء الذي نخر وينخر أصول الحكم في بلادنا.
ما جدوى تلك المقاربات التي تالّقت في دراسة سلطوية الرئيس بورقيبة ودكتاتورية الجنرال بن وفاشية الإخوان المسلمين إذا لم تكن قادرة على اختراق غلاف السلطة التونسية السميك لترصد في عمق المجتمع التونسي تلك القوى التي توصّلت من 1956إلى 2011 بطرق ناعمة إلى الحفاظ على منظومة الامتيازات والولاءات واستماتت في رفضها لمبدأ التكافؤ في الشغل والتنمية والعيش الكريم لعموم التونسيين؟ يبدو لي أن الصالحي تفطّن إلى خطورة هذه الفجوة المعرفية(épistémologique )وسعى جاهدا في كتابه إلى تفاديها.
بل ماذا سنجني من تلك الكتب التي ستتناول مستقبلا شعبوية الرئيس قيس سعيد في غياب تحقيق استقصائي يميط اللثام عن مسيرة أولائك الذين حطّوا الرّحال بعد سقوط الجنرال في 2011 وأعادوا تفعيل شبكة "الاستعمارالدّاخلي" طيلة العشرية الفارطة باسم الإسلام السياسي واستعانوا، لمصادرة مقدّرات البلاد، ب"المخزنيين الجدد" من الكفاءات العلمانية؟
فما هي، يا ترى، القوى الصاعدة التي ستضطلع بدور "المستعمر المحلي" على المدى القريب والمتوسط؟ وأي فئات ومجموعات ستضفر بدور الخدم والحشم في الصيغة القادمة للحكم التونسي ؟
فيما يواصل المختصّون في العلوم السياسية التركيزَ على التحوّلات الجلدية التي عرفتها السلطة في تونس من الاستقلال إلى اليوم وفيما يجتهدون لتصنيف تلك الفترات طبقا لمعايير دولية معلومة(سلطوية متنوّرة - دكتاتورية- ديمقراطية تمثيلية-ديمقراطية مباشرة أو شعبوية) يعود مُحرِّكُ الاستعمار الدّاخلي إلى الاشتغال من جديد ليحبط، في كل مرّة، حلم التونسيين في المُوَاطَنة وليسفّه خطاب جلّ الخبراء في الشأن السياسي.
شعبان الحرباوي