"الثقافة العلمية في مجابهة "المكتوب
Tahar Gallali, el-Mektoub ou penser le risque ?, Nirvana, 2020, 262 pages, prix :22 DT, ISBN :978-9938-53-045-2
لم تشهد السّاحة الفكرية التونسية حركية على مستوى الكتابة والنشر مثل التي نعيشها اليوم. ولأن الكمّ يساعد إلى حدّ كبير على إفراز الكيف ، فإنّي لن أسارع بمصادرة هذا الزخم بدعوى أنّ غثّه قد يحجب سمينَه. رغم التفاوت الشديد بين الإصدارات شكلا ومضمونا فإنّ وفرتها تساعد القارئ على المقارنة بينها واستجلاء الجيّد منها. فضلا عن أنّ إقبال شرائح عديدة من التونسيين على نشر تجاربهم المهنية والذاتية والإبداعية ستسهم في تحرير الكتابة من دوائرها التقليدية الضيّقة حيث انخرط طيلة العشرية الأخيرة أطبّاء ومهندسون وتقنيون في الحوار المجتمعي الدّائر حول الشأن العام وكتبوا فيه انطلاقا من اختصاصاتهم العلمية والتقنية.
في كتاب El Mektoub ou penser le risque ?، الصادر أخيرا عن دار نيرفانا للنشر، لم يقتصر الطّاهر القلاّلي، المختصّ في الوقاية من الكوارث، على عرض معارفه في هذا المجال وإنّما أردفها بشهادته حول المخاطر البيئية والبشرية والطبيعية التي تتهدّد بلادنا في المستقبل المنظور وعلى المدى البعيد. ولقد كانت الفيضانات التي اجتاحت الشمال الشرقي في صائفة 2018 محفزا أساسيا لتأليفه هذه المحاولة . يذكّر الطاهر القلاّلي بتلك المآسي قائلا:"ولدت فكرة هذا الكتاب من صدف الأيّام العادية. كان ذلك سنة 2018، في نهاية شهر سبتمبر و كنت حينها مريضا طريح الفراش بالمستشفى العسكري، أتابع( وفي بعض الأحيان عن مضض) تلك الحوارات التلفزية الساخنة حول مخلّفات سوء الأحوال الجوية على كل الشمال الشرقي للبلاد التونسية. صحيح أنّها كانت فيضانات غير مسبوقة وأنّها أخذت السّلطة العمومية على حين غفلة ولكنّها كانت منتظرة من وجهة نظر علمية. كثيرون كانوا يتساءلون بألم وغضب شديدين: " كيف لم يكن بالإمكان أن نتجنّب الوقوع في الأسوأ ".
لست من أهل العلوم الصحيحة ولا أخفي أن قراءتي للفصل النظري في هذا الكتاب لم تكن هيّنة لصرامة منهجه وخصوصية مصطلحاته. للأمانة الفكرية، لست واثقا تماما من أنّني قد استوعبت كل الفروق بين المفاهيم التي اعتمدها لتفكيك ظاهرة المخاطر وتوصيف المراحل التي تمرّ بها من "االخطر الداهم والمحتمل" إلى "الكارثة". غير أنّ المحتوى المعرفي للكتاب ينمّ عن دراية كبيرة بالواقع التونسي ويستحقّ أن نتمهّل في فهم معانيه بل وأن نحتمل، في سبيل ذلك، شيئا من العناء الجميل.
في El Mektoub ou penser le risque ? يستحث الطاهر القلاّلي النخبة التونسية على التسلّح بالمعارف العلمية الرّاهنة وعلى السعي إلى تفعيلها كضرورة لا غنى عنها في كل مجالات الحياة، ناهيك أن جانبا هاما من هذه الحقائق العلمية قد خرج من دوائر الاختصاص و بات اليوم مكوّنا أساسيا في الثقافة الجمعية. وقد افرز مقاربة جديدة للمخاطر في المجتمعات الغربية استوجبت إعادة النظر في نمط العيش المشترك وتغيير السلوكيات القديمة بما يكفل تعايشا متّزنا بين البشرية وبقية الكائنات الحية على كوكب الأرض. إنّ حصول الكوارث الصناعية مثل تشارنوبيل والبيئية مثل تلوّث البحار والمجتمعية مثل الإرهاب المُعًوْلَم قد سرّع في بلورة هذا الوعي الكوني الجديد. صحيح أن كتبا كثيرة قد تناولت بإطناب هذه المسألة ولا أظنّ أنّ القلاّلي يدّعي لنفسه فيها سبقا علميا. بيد أنّ كتابه يكتسي أهمّية كبرى إذ يرصد فيه الأسباب التي تحول دون استثمارنا ، نحن معشر التونسيين، للمنجزات العلمية استثمارا فعّالا لاسيما في مجال الكوارث. في هذا الإطار، يذكّر الطاهر القلاّلي بأنّنا أصبحنا ننتمي، كغيرنا من الشعوب، إلى ما اصطُلِحَ على تسميته ب"مجتمع المخاطر" وأنّ الكوارث بكل أصنافها ليست مجرّد أحداث مأساوية تنزل علينا من حيث لا نعلم بسرعة الصاعقة. فذلك لا يعدو أن يكون تمثّلا حينيا للمصائب يفاقم من هلعنا ويفقدنا بالتالي جانبا كبيرا من قدرتنا على التصدّي لها. لقد تجاوز العلم الحديث والمعاصر هذا التّصوّر منذ زلزال لشبونة سنة1755. فيما لا تزال المجتمعات العربية تعاني في هذا المجال قصورا كبيرا لأنّها تعيش تناقضا صارخا ومديدا بين ضرورة أن تتحكّم في زمنها وأن تتمثّل المستقبل طبقا للمواصفات والمعايير العلمية الحديثة وأن تستبق، بالتّالي، الكوارث قبل وقوعها من جهة، وبين أن تبقى حبيسة "المكتوب" اعتقادا منها أن الله وحده " علاّم الغيوب" وأن المكروه الذي يصيبنا إنّما هو قدر محتوم، من جهة ثانية. إن المكتوب هو عبارة عن سلوك عرفي يمزج بين المقولة الدّينية وتبريرات قدرية أخرى ضاربة في القدم. فلقد كبّلت "ثقافة المكتوب" لدى هذه الشعوب إرادة الفعل وخذلت عزيمتها على التغيير كما دفعتها إلى التطبيع مع الجوائح. يعدّد القلاّلي أوجه الاختلاف بين هذين النمطين من التفكير قائلا: "فيما يبعث فينا الخطر الشكّ يدفعنا المكتوب إلى الشعور باليقين المطلق" والتسليم بالأمر الواقع. ويضيف مؤكّدا على التناقض الصّارخ بينهما: "وبينما يجعل التحليل العلمي ما لا يمكن التنبؤ به أمرا ممكنا أو محتملا، يرفض الفكر الدّغمائي أن يتحسّس ما يلوح في الأفق".
إن الوقاية، كما يراها القلاّلي، لا تقتصر على توفير الوسائل التقنية للحماية أو على إنفاذ القرارات الحكومية ذات الصّلة. فالحالة التونسية أبلغ مثال على ذلك إذ ما فتئت الدّولة التونسية تستحدث منذ الاستقلال هياكل ومؤسّسات لرصد ومجابهة الفياضات والجفاف والتصحّر غير أنّ برامجها الوقائية لا تزال مخيّبة للآمال. في الواقع، لم يتوان القلاّلي في رصد المعوّقات المالية والقانونية والتنظيمية في كل المؤسّسات المختصّة مثل اللجنة الوطنية للوقاية من الكوارث و الهياكل الأخرى التابعة لها على المستويين الجهوي والوطني . فمآخذه على المنظومة الوقائية عديدة بيد أنّه يركّز على إخلالاتها الهيكلية المزمنة مثل القرارات الفوقية و وغياب عامل السّرعة في الاستراتيجيات الرّسمية. إذ يستوجب الفعل الوقائي في عالم اليوم إدارة محكمة لزمن الجوائح وذلك بجدولة دقيقة لمراحله الثلاث:
1- التأهب المبكّر تحسّبا للكارثة.
2- التدخّل السريع عند وقوعها.
3- القدرة على التعبئة وحشد الموارد للتّصدّي إلى نتائجها السلبية على المناطق والمدن المنكوبة.
يدعو القلاّلي في خواتيم محاولته الفكرية إلى وتوسيع دائرة الفاعلين في الوقاية المدنية وذلك بتشريك كل مؤسّسات المجتمع المدني من جمعيات أهلية وأحزاب سياسية ومنظّمات مهنية كما يولي في هذا المشروع دورا رياديا لوسائل الإعلام والتواصل: "إنّ إعلام السكّان يشكّل المحرّك الأساسي لنشر ثقافة المخاطر التي من شأنها أن تكسبهم طرقا جديدة في التعامل والسلوك. و سيمكّن الإعلام أيضا من طرح مسألة الكوارث وسبل الوقاية منها وإشكالاتها على النقاش العام". تلك هي الأفكار الأساسية التي يطمح القلاّلي إلى إرسائها في هذا الكتيّب وإبلاغها إلى المختصّين وإلى غيرهم من عموم القرّاء.
فعلا، إنّ كتاب El Mektoub ou penser le risque? إ صغير الحجم. لكنّه كبير بمعانيه ويحمل في طيّاته درسا ثمينا حول كيفية التعاطي العلمي مع العوائد البالية. وجب التوكيد في هذا الباب أنّ القلاّلي لم ينخرط في تلك الخُطب الحداثية العصماء التي تحقّر عقلية "المكتوب". فإذا سلّمنا بأن تجاوز هذه الثقافة السائدة بات اليوم أمرا ضروريا بل حتميا، فإنّه، في المقابل، لا طائل من التشهير بها أو الإمعان في توصيفها كمظهر من مظاهر التخلّف في مجتمعنا. لا ننسى أنّ التكبّر والمكابرة باسم العلم والتقدّم كانا من بين الأسباب التي أدّت إلى فشل التجارب التحديثية طيلة العقود السابقة. ستبقى دعوات الترشيد والعقلنة والعصرنة دعوات عديمة الجدوى طالما لم تتنزّل تلك القيم في دائرة الفعل اليومي.
بصرف النظر عن جوانبها التقنية والإجرائية، تتوفّر المقاربة التي يقترحها الأستاذ القلاّلي في مجال البحث الاستباقي على المقوّمات الأساسية لمشروع مجتمعي واعد يجمع بين البراقماتية العلمية ذات الفاعلية الآنية والمباشرة وبين الجدوى الثقافية على المدى البعيد لأنّ التحكّم في زمن الكوارث سيفضي تدريجيا إلى ترسيخ اليقظة المستديمة في السلوك العام. لماذا لا نجعل من هذه اليقضة التي يحتّمها الزمن العصيب تمرينا أو بالأحرى تدريبا على حسن تدبير شؤوننا في كل أوجه الحياة؟
لقد صاغ الطّاهر القلاّلي بدقّة كبيرة برامج الحماية وكيفية التحكّم في الفعل الوقائي ولكنّه تناول "ثقافة المكتوب" كظاهرة اجتماعية وذهنية عامة دون الوقوف على سلوكيات محدّدة. لذلك قد لا يجد القارئ في كتابه أمثلة ملموسة تحيل بعينها على مِيكَانِزْمَات "المكتوب" في مجال المخاطر وفي غيره من المجالات. لا شكّ أنّ هذا الموروث السلبي لا يزال في حاجة إلى مزيد التفكيك وأنّ مقاربة القلاّلي العلمية له ستبقى منقوصة ما لم نُخضِعْ ذهنية "المكتوب" إلى مساءلة فكرية وحضارية شاملة.
شعبان الحرباوي