عندما ينتصر المخيال الأدبي للطّاهر الحدّاد
أميرة غنيم، نازلة دار الأكابر، مسكلياني، الطبعة الثانية، تونس، 2020، 460 صفحة
ISBN : 9789938241402
كثيرا ما حجبت عنّا أمّهات الكتب التونسية سِيَرَ أصحابها. لقد رسّخت فينا المقدّمة وأقومُ المسالك والإتحاف وورقات قِيَمًا معرفية وإنسانية عديدة بيد أنّ شهرتَها حالت دون أن نتعرّف إلى مؤلّفيها في حياتهم اليومية وبين ذويهم ومريديهم، وكأنّ آثارهم قد أحاطتهم بهالة فكرية فحنّطتهم في ذلك الدور الوظيفي المتّصل أساسا بالشأن العام. ما فتئنا نذكر ابن أبي الضياف ونستشهد بأقواله ونعتدّ بشهادته في التاريخ. لكنّنا لا نولي شخصية سي "احْمد بن الحاج مْحمّد بالضياف العوني، ذلك الموظّف السّامي المتحدّر من الآفاق، اهتماما كبيرا ولا نتساءل كيف كان يقضّي أيّامه بين مشاغله الرّسمية بباردو وشؤونه العائلية بداره في ربض باب سويقة حيث كان ينزوي ليلا ليدوّن أخبار ملوك تونس. إن رموز الفكر التونسي في حاجة إلى مخيال روائي وسينمائي يكسِر صورتهم المنمّطة فيُخرِجُ سِيَرَهم إخراجا فنّيا ينعش ذكراهم بيننا. كم أتمنّى أن يُستَدْرَج في يوم من الأيّام سي عبد الرّحمان شُهِرَ "ابن خلدون" إلى عالم الرّواية والسينما والمسرح. فيَخرُج إلينا من أروقة المكتبة الوطنية مُسْدِلاً على كتفيه بُرنُسَه المغاربي ثمّ يتّجه راجِلا صوب المدينة العتيقة ليفتح للعموم باب منزله وخزينة ذكرياته ومغامراته التي عاشها غربا وشرقا.
الطاهر الحدّاد أو السيرة الخرساء
لا أنكر أنّ الطاهر الحدّاد قد نال، بمعية صديقيه الشّابي و الدوعاجي، قسطا من هذه الحضوة الفنية المنشودة في فيلم ثلاثون. فشدّنا إلى الشّاشة حضوره النضالي المتميّز في النقابات العمّالية فضلا عن الإطلالة البهية في هذا الفيلم لكلّ من أبي القاسم وعلي الدّوعاجي وهما يقبلان على الحياة في عزّ الشباب. لستُ قدريا ولكن وجب الإقرار بانّ نصيب سي الطاهر من الحياة الدّنيا كان أقلّ زخما ممّا عاشه سي عبد الرّحمان وأن ما رشح من أخباره يبدو أقلّ شيوعا بيننا من سيرة أبي القاسم التي تدعّمت بمادّة سردية جديدة حيث كشفت رسائل الشّاعر، المنشورة ضمن الأعمال الكاملة لمحمّد الحليوي( بيت الحكمة، 2012)، عن معاناته اليومية في الشّابة من الثالوث المقيت: المرض العضال وضيق الحال وتكاثر العيال.
أنّى للسّنمائيين والرّوائيين اليوم أن يبنوا مشهدية متكاملة الأركان حول سي الطاهر-الإنسان في حين أنّه قد قضّى الفترة الأخيرة من سنواته الستّ والثلاثين ملاحقا من أكابر القوم ملاحقة لصيقة ومحتميا ببني عشيرته؟ بغياب التوثيق لتلك الحقبة، حُجِبَتْ عنّا "لقشة" مفصلية من حياته وقُبِر معها كلُّ ما كان يعتمل في خُلده حينها من عواطف وأحلام وكوابيس وانكسارات. من مفارقات القدر البائسة أيضا أنّ الحدّاد، نصير النساء، قد مات أعزب. فلم يظفر منهنّ حتّى بما أحلّ له الشّرع. ولأنّه قد جاهر في كتابه بتحرير المرأة وفتح بذلك على نفسه أبواب جهنّم، فإنّي لا أتمثّله إلاّ متوجّسا قربَهُنّ ومتحاشيا طلب وِدِّهنّ خيفة من أن يُرْمَى بالفجور إذ لا تفصل بين مرافعته عن المرأة وإمكانية اتهامه بالزّنا إلاّ مسافةُ إصبع. تتعدّد في هذا المجال التخمينات لكن أيّا كانت حقيقة علاقته بالنساء فمن المرجَّح أنّ انشغاله بمشروع مجتمعي بذالك الحجم وبتلك الأهمّية لم يترك في حياته القصيرة فسحة كبيرة للأنثى.
من يقرا رواية نازلة دار الأكابر، الصّادرة عن دار مسكيلياني للنشر و الحائزة على الجائزة الثانية للكومار الذّهبي لسنة 2020، يستشعر أنّ صاحبتها، أميرة غنيم، قد وقفت على هذه الفراغات في حياة سي الطّاهر وعاينت فيها تلك المساحات الخرساء قبل أن تسعى إلى تأهيله تاهيلا روائيا وتبوّأه في كتابها مكانة الشخصية المحورية.
عندما يلتحم الكتاب بالكتاب
في نازلة دار الأكابر، اختارت أميرة غنيم أن تستولد عناصر الحكاية من روح كتاب إمراتنا في الشريعة والمجتمع ومن الأحداث التي حفّت بنشره. فأخرجت سي الطاهر من دورالمجادل في قضية المرأة لتنزّله، في الرّواية، منزلة البطل العاشق لامرأة بعينها. كما أنّ الحضور المكثّف للنّساء في محكيتها قد نزع عن "امراتنا"، لفظا ومعنى، صيغة الإفراد المجرّد فاضحا بذلك وصاية الخطاب الذّكوري على مصير الإناث. لكسر الطوق الذي ضُرِبَ حولهن، توجّب على أميرة غنيم أن تفسح المجال واسعا لأصوات كلّ من الخالة لويزة وللاّ بشيرة الرصاع، للاّ جنينة النيفر وللاّ فوزية وهند النّيفر، فتقاسمن " أحاديث" الكتاب مناصفة مع الرجال.
تروي أميرة غنيم أن سي الطاهر الحدّاد قد تعلّق بزبيدة الرّصاع عندما كان يتردّد على دارهم لتلقينها بمعية أخواتها دروسا في اللغة العربية وفي مبادىء الشريعة . فضلا عن عراقة الحَسَب ورفعة النسَب فإنّ زبيدة تتوفر على مواصفات مخصوصة جعلت منها استثناء نسائيا بكلّ المقاييس في ذلك الزمان. لقد تلقّت، خلافا لجلّ بنات الأكابر وقتها، تعليما عصريا ونهلت من الثقافة الفرنسية زادا معرفيا متنوّرا. لكنّ نزعتها التحرّرية سبّبت لها متاعب جمّة مع زوجها سي محسن النيفر وعائلته لاسيما في تلك الليلة الليلاء من نوفمبر1935 : شاءت الصدف أن يعترض حموها رسالة كان قد وجّهها الطاهر إليها قبل وفاته بأيام قليلة. فانفضح أمر زبيدة وقامت الدّنيا بين داري الأكابر ولم تقعد. تعمّقت محنتها في دار النيفر بعدما حكم عليها زوجها" بالهجر دون الطلاق" واعتمد "التعذيب الصّامت" منهجا للتنكيل بها. فعاشت زبيدة، حبيبة الحدّاد سابقا، منبوذة عائليا ومكبوتة جنسيا وسريعة الانهيار نفسيا لتنتهي مُقعدة بعد سقوطها من أعلى الدّرج بدار النيفر. كما تأبّد الخلاف بين العائلتين المتصاهرتين وأصبح يشكّل نازلة، بالمعنى القضائي للكلمة، حيث تتناوب في الرّواية ثلاثة أجيال من الدّاريْن للإدلاء بشهاداتهم في القضيّة، كلّ من موقعه وكلّ حسب صلته الأسرية بزبيدة. يكفينا أن نعيد ترتيب تواريخ أحاديثهم لنتبيّن طول مداها الزمني فهي تغطّي حقبة لا تقل عن الثمانين سنة .
بمرور الزمن، أضحت مأساة زبيدة إرثا ثقيلا لكلتا العائلتين "تتوارثه السلالة كابرا عن كابر" ويتناقلون حيثياتها من جيل إلى جيل. تتقاطع رواياتهم معبّرة بالخصوص عن شعورهم بالعار والخزي. لكن سرعان ما يعدل الكثير منهم عن إدانة زبيدة ليعترفوا بما كانوا اقترفوه في حقّها دون إثبات .إنّهم يمعنون في جلد ذواتهم بقسوة المُتندّم وتجرّهم لحظة المكاشفة إلى فضح المستور فينهالون على البعض من ذويهم تقريحا وتجريحا. منذ الصفحات الأولى من الرّواية، تحمل هند النيفر ، حفيدة زبيدة، بشدّة على أسرتها وترميها بأبشع الأوصاف قائلة : "تعتمر على الرّأس المجلّل بالعار والصَّغار قبعة المفاخر والمآثر، وترتدي من فوق اليدين الملطّختين بالرّذائل والآثام قفّازات المجد والشّرف والمروءة" إن ديار "البَلْدية" بالحاضرة، كما تصوّرها هند، هي بمثابة الفضاء الماحق السّاحق للذّات البشرية. وتصحّ في شأنها المقولة الشعبية " الاسم العالي والمربط الخالي": هي منازل فاخرة وفسيحة توحي في ظاهرها بالجاه والثروة فيما تخفي جدرانها العالية وأبوابها الموصدة انتهاكات بالجملة في حق الأطفال والنساء. إنّ محنة زبيدة ، على بشاعتها، لا تعدو أن تكون نتاجا طبيعيا لتلك الذهنية الأبوية والتسلطية التي أفرزت بناء أسريا أعرج و كان من ضحاياه، فضلا عن زبيدة، محمّد ومصطفى النيفر والمهدي الرّصّاع وغيرهم.
بيد أنّ أميرة غنيم بقدر ما تسعى إلى تسليط الضوء على القيود التي كانت تكبّل المرأة التونسية في ثلاثينات القرن الماضي والتي أدانها الحدّاد في كتابه، فإنّها، بتركيزها على حالات الزواج القسري للإناث والذّكور واغتصاب الأطفال، تضمّن كتابها مضامين جديدة وشديدة الحساسية لدى المجتمع المدني التونسي المعاصر.ربّما لم نعد اليوم نولي خطاب الحدّاد في تعدد الزوجات الاهتمامَ الذي خضي به في ستّينات القرن الماضي فيما نبدي تحفّزا كبيرا إزاء العنف المسلّط على النساء والأطفال خصوصا وعلى باقي المستضعفين في المجتمع عموما. عند قراءة نازلة دار الأكابر، تستنفرنا تلك المظاهر المشينة في مجتمع الثلاثينات لا لأنّنا لم نعد نقبل بما سكت عنه أجدادنا فحسب وإنما أيضا لأنّها أمراض اجتماعية لا تزال سارية بيننا. وقد ساهمت الثقافة الحقوقية عبر وسائل التواصل الجديدة في بلورة وعي كوني بخطورتها وبضرورة التصدّي لها بشراسة. ركّزت أميرة غنيم سردها على تلك الانتهاكات القديمة-الجديدة وجعلت منها رافعة سردية فعّالة لتقريب المسافات بين زمن الحدّاد وحاضرنا. إذا كانت شهادات الضحايا حول الانتهاكات التي طالتهم آنذاك تشدّنا إلى نصّ الرّواية شدّا فلأنّ أحاديثهم طُبِعت بوعينا و صِيغت بكلماتنا. وكأنّ قصّة الحدّاد وزبيدة الرصّاع الخيالية تصل الزمن بالزمن والكتاب بالكتاب وتجسّر تفاعلَ ثقافتنا المدنية الرّاهنة مع قاعدتها الخلفية، بالمعنى الحربي للكلمة. لأنّ المعركة، وإن اتخذت اليوم أشكالا نضالية تختلف عمّا اهتدى إليه الحدّاد، فإنّها لا تزال متواصلة ولا يزال كتابه يسهم فيها بالدّعم والإسناد. لقد سعت أميرة إلى توطيد أواصر القرابة الفكرية بين روايتها وكتاب الطاهر الحدّاد على مستويات عديدة أخرى لا يتّسع المجال للخوض في كل تجلّياتها.
من توابل السّرد
لا أخفي أنّي شرعت في قراءة نازلة دار الأكابر بشيء من الارتياب وكنت أخشى أن يتحوّل هذا الزخم الفكري حول الحدّاد وكتابه إلى حِمْلٍ يُثقِل بناءَها الدّرامي أو أن يطغى فيها التأمّلُ الفكري على متعة الحكي. فما الذي يجعل من نصّها مصدر انجذاب لا يُقَاوَم؟
في الحقيقة، ولج الحدّاد هذه الرّواية من زوايا غير تلك التي كنت أتوقّع. فإذا صرفنا النظر عن الأحداث التاريخية التي حفّت بنضال الرّجل في الثلاثينات وتمعّنا في عناصر الحكاية التي نسجتها حوله أميرة غنيم ، فإنّنا سرعان ما نتبيّن أنّ العلاقة الغرامية بين سي الطّاهر وللاّ زبيدة تتوفّر على كل شروط "الخرافة" بالمعني الأدبي للكلمة وأنّها تشكّل، في حدّ ذاتها، خزّانا هائلا للتشويق والإثارة بسبب الغموض الذي يلفّها من كل جانب: لقد قضى سي الطّاهر قبل أن تصل رسالته إلى زبيدة و ظلّ أقرباِؤها في حيرة من أمرهم متحاشين الخوض في مضمونها ومتكتّمين على حيثيات تلك الواقعة. أمّا زبيدة فإنّها ماتت بعد عمر طويل دون أن تنبس بكلمة في الموضوع. في المُجمل، لم يرشح في الرّواية من تفاصيل علاقتهما إلاّ ما ورد في شهادة علي الرّصاع حيث اعترف قبل وفاته بأنّه كان قد التقى الطاهر الحدّاد بكازينو البلفيدير سنة 1932 بمناسبة إصداره لامراتنا في الشريعة والمجتمع وأنّه رفض بقسوة وعنجهية أن يزوّجه ابنته زبيدة. لا يفوتنا أن نلاحظ في هذا الباب أنّ جل الشخوص يسعون بكل جهد إلى استجلاء الحقيقة حول تلك العلاقة. وكلّما استعصى عليهم الأمر،استبدّت بهم الظنون ودفعتهم غيرتُهم على شرف العائلة إلى المزيد من الاستقصاء. وإذا تستّروا عمّا يملكون من معلومات في شأن زبيدة أذكوا لدى القرّاء رغبة جامحة في استكشافها وكأنّ فضول هؤلاء من فضول أولئك وكأنّي بأميرة غنيم تُبقي على جوانب عديدة من الحكاية مركونة في الظل لتحفّزهم جميعا، شخوصا وقرّاء ، على الانخراط في عملية التقصّي.
إنّ الدور الذي تلعبه هند في نازلة دار الأكابر يشبه إلى حدّ كبير دور المحقّق الخاص في النوازل القضائية المعقّدة ( .(détective privéإذ ما فتئت تتلقّط الأخبار وتقتفي أثر الشخوص الأساسية لفكّ شفرة تلك الجملة الغريبة التي قالتها لها جدّتها :" إنّك، يا هند، حفيدة الحدّاد". لم يهدأ لها بال حتّى بلغت بالتقصّي منتهاه وعثرت على هدية سي الطاهر إلى جدّتها زبيدة. لم تتردّد أميرة غنيم، نصيرة هند وأمينة سرّها، في الاحتفاء روائيا بهذا الحدث فبوّأته خاتمة روايتها وخصّته بسردية شديدة التشويق : لقد ظل كتاب امرأتنا في الشريعة و المجتمع ملفوفا في محفظة مُحكَمَة الإقفال ومرّ، في رحلته، بوسائط عديدة قبل أن يُودَع في دهليز دار النيفر لعقود طويلة. بعيد ثورة 14 جانفي 2011، عادت هند إلى دار النيفر المهجورة لتفتح بابها وتخلع "خزانة العجائب" المخبّأة في زاوية من زوايا الدّهليز المظلم فتظفر، فضلا عن الكنز المفقود، بوثائق ثمينة أخرى. في الثلاثينات، كان كتاب امرأتنا في الشريعة والمجتمع هدية سي الطاهر إلى عشيقته زبيدة وبات، بعد مماتهما، وصيّة إلى كل التونسيات والتونسيين.
تشن الحاكية الرئيسية، لا سيما في بداية الرّواية، حربا شعواء على أكابر البَلْدِيه بالعاصمة وتتّهمهم بالتعالي والرّياء والمكابرة. بل إنّها تنزع أحيانا، من شدّة الحنق عليهم، إلى القطع مع حَسَبها ونَسَبها توقّيا من التشوّهات النفسية والانحرافات الجنسية التي خرّبت دار الجدود والتي لا تزال تلاحق الأبناء والأحفاد كأنها لعنة إلاهية أو عاهة موروثة. من الأكيد أن الفضاعات التي اُرْتُكِبت في دار النيفرتبرّر حِدِّية المواقف الطاغية في الرّواية. غير أنّ حضورهند القوي قد يحجب عنّا الجوانب الجميلة من العادات الحضرية في الثلاثينات لأنّ دار الأكابر، كما صوّرتها أميرة غنيم، ليست شرّا مطلقا ولا هي بجحيم دَانْتيّ وإنّما تشهد، كمعلم معماري، على جزء هام من تاريخنا الاجتماعي. تحيل طوابقها وبئرها "ذو الرّقبة" وصحنها ودهليزها على نمط من العيش البلْدي الرّغيد كما تعبّر مواسمُ تحضير"العولة" فيها عن متعة ساكنيها بانسياب الزمن البطيء. أمّا بيوت التخزين فإنّها تعبق بروائح التوابل وأعشاب التداوي وعطر زهر البرتقال المُقِطَّر.
في وصفها لدار النيفر، تولي أميرة غنيم المطبخ و"بيت العولة" عناية مخصوصة لدورهما الهام في تحفيز ذاكرتنا الحسّية. فكلّما حدّثتنا عن مصنّفات دار الأكابر أثارت فينا إحساسا ملتبسا يجمع بين نكهة المأكول ولذّة النص المقروء وكأنّ حكاياتها حول فنّ الطبخ البلْدي تنسينا مساوئ أصحابه، أو بالأحرى، تحثّنا على تناسيها ولو إلى حين عملا بمقولة" أطْعِمْ الفمْ تِسْتْحِي العِينْ". لا يقل وصفها للشخوص طرافة عن تعريفها بأشيائهم: هم لا يقهقهون عندما يضحكون وإنّما "يكتكتون في الضحك" و لا ينتفضون حين يفاجئون بل "ينتترون" فرحا أو جزعا ف"َ تْنخَلِعَ" قلوبهم. في الأيام العصيبة، يدخل سي محسن النيفر بيته "مقدّما رِجلا مؤخّرا أخرى" و"حول أضلع(ه) من داخلٍ لَبْلابةٌ من الجوى تكبر وتكبر".
إن أميرة غنيم لا تعيد كتابة التاريخ بقدر ما تفعّل مخيالها الأدبي للاقتصاص منه نُصرةً للطّاهر الحدّاد وإحياء لأفكاره. في محكيتها، يخوض سي الطاهر، علاوة على نضاله المعلوم، تجربة غرامية مع زبيدة بنت الأكابر ويلعب فيها دور البطل الغائب-الحاضر عقودا بعد وفاته بفضل عشيقته وكتابه. لكن كلّما كثّف الشخوص نبشهم في ماضي العائلة ورفعوا، الواحد تلو الآخر، المحاذير عن الذكريات الفظيعة، تعقّدت "النازلة" واتّسع مجال الرّواية . في نازلة دار الأكابر، تنفذ أميرة غنيم إلى خبايا ذاكرتهم الحسّية لاسترجاع أشيائنا "الزِّمْنِية" وعرضها على واجهة الذّاكرة الوطنية فترتقي بكتابتها الرّوائية إلى مصافّ النصوص العالمية.
شعبان الحرباوي