"حسين الواد والثورة "المَحْنُونة
حسين الواد، الغربان، عيون المعاصرة، دار الجنوب للنشر، أفريل 2018
1- بعد الذكرى الأولى لوفاته:
مرّت سنة وبعض الأشهر على رحيل حسين الواد. كنت أنوي آنذاك، قبل أن يقتلعه الموت منّا اقتلاعا، تقديم روايته الأخيرة الغربان لقرّاء موقعنا تأكيدا منّي على مكانتها المحورية في مشروعه الإبداعي. فحالت فاجعة موته المفاجئ دون ذلك وهجرتُ الكتابَ لمدّة ليست بالقصيرة.
لقد جمع بيننا العملُ بالجامعة لعدّة سنوات قبل أن تتخطّى علاقتي به حدود الزّمالة الأكاديمية لتتوطّد وترتقي إلى مصاف "الصّداقة المهنية والفكرية"، إن جازت العبارة. بيد أنّ "الأستاذ حْسِينْ" كان من طينة أولئك الذين وسمتهم الجدّية وسما نهائيا. فبقدر ما كان صارما مع نفسه كان ميّالا إلى الحذر في تعاطيه مع الآخرين. حتّى لو كُنتَ من المقرَّبين منه، فإنّ طبعَه الهادئَ يثنيك عن محاولة استدراجه خارج تلك الرّوابط العادية. فلا تسعى، لا سيما إذا لم تكن من أترابه، إلى اختصار المسافة بينك وبينه بسهولة. فكان يبدو لي انفراديَّ المَنزَع ودائمَ التهيّب من العلاقات العفوية. ثمّ نشأ بيننا ودّ كبير في بداية هذه العشرية عندما اكتشفتُ كتابتَه الرّوائية المتفرّدة في سلسلة روائح المدينة (2010-2015) وفي سعادته سيادة الوزير(2015). لقد فاجأني كثيرا ولعُ هذا الأستاذ الجدّي جدّا بالسخرية وبمخزونها الهائل من "أخضر الكلام" التونسي كما أعْجِبتُ بقدرته على توظيفها في رواياته. لم أغتنم، لحسرتي الشديدة، فرصة لقاءاتنا النادرة، حِينَهَا، لأُفاتحه في هذه المواضيع ولأعبِّرَ له، كذلك، عن أحاسيس الإلف لشخصه والتقدير لإبداعه. إنّ الإفصاح المتأخّر عن مثل هذه المشاعر لم يعد ينفع اليوم، بل أضحى تعبيرا لغويا فاترا. فما لم يُقَل في إبّانه راح أدراج الرّياح.
2- من روائح الثورة
صدرت رواية الغربان بسلسلة "عيون المعاصرة" في أربع مائة صفحة من الحجم المتوسط ربيع السنة الفارطة، فكانت آخر ما نشر حسين الواد قبل وفاته. لكنّها تمثّل أيضا الجزء الأخير من روائح المدينة إذ استكمل فيها صاحبها بناء سرديا كان شرع فيه منذ سنة 2010 في الرّوائح الأولى. إنّ الرّابط بين أجزائها الثلاثة يكمن أساسا في اعتماد الواد الإخبار المسترسل حول أوضاع مدينة تونسية لم يفردها باسم علم ولم يحدّد موقعها الجغرافي في الخارطة التونسية. لقد تكفّل بهذا السّرد تباعا رواة كانوا قد عاشوا فترات مفصلية من تاريخ البلاد سياسيا واجتماعيا منذ دولة الاستقلال إلى ما بعد انتفاضة 14 جانفي 2011. كان قد اضطلع "المؤرّخ الحزين " بهذا الدور الرّيادي في الروائح الأولى وخَلَفه فيه حفيدُه، فركّز من بعده، في الروائح الثانية، على مظاهر التلوّث التي أصابت "مدينتنا" ذهنيا وبيئيا في أواخر عهد "التغيير الكاذب". ثم تولّى "سي حميدة" هذه المهمّة في الغربان فاضحا المصير الذي آلت إليه الانتفاضة الشعبية الأخيرة. في واقع الأمر، إذا أردنا أن نتبيّن جيّدا الرّابط الوثيق بين ثلاثتهم، علينا ألاّ نختزله في وظيفتهم السّردية الصِّرْفة لأنّ حسين الواد أوكل إليهم دورا متعدّد الأبعاد وجعل من ديمومة سردهم المناوئ لكلّ أشكال التسلّط شرطا رئيسا في التواصل بينهم. وكأنّي بحسين الواد، الروائي، لا يرى أملا في اجتثاث الفكر التسلّطي، الذي جثم قرونا على صدورنا قبل الثورة والذي استعاد عافيته بعدها بأشهر قليلة، إلاّ بديمومة السّردية الفاضحة له وبتوالدها الثقافي عبر الزمن. لقد بوّأها في أجزاء روائحه الثلاثة مكانة المِشْعَلِ الذي تتناوب على حمله أجيال من الرّواة يثمّن اللاّحقُ منهم دورَ السّابق ويستنير الخَلَفُ بشُعْلة الحرّية التي زرعها فيه سَلَفه منذ الشباب. يتبرّك حفيد "المؤرّخ الحزين"، في الجزء الثاني، بصولات جدّه الساخرة من عيوب مجتمع الاستقلال كمن يتبرّك بكرامات وليّ صالح ويستنير بعقلانيته الثاقبة برهبة وإجلال كبيرين. أمّا سي حميدة، الرّاوي الرّئيسي في الغربان، فإنّه لم يكن مثالا يحتذى. لقد ارتكب في المهجر، كما جاء في اعترافاته، من الجرائم ما لا يؤهّله مبدئيا لدور البطولة في الرّواية. بيد أنّه استلهم من سيرة شيخه المعلّم، المؤرّخ الحزين، روحا نضالية ومناهضة للمسلّمات أعادت له إنسانيته المفقودة. رغم أنّ" الضّيق بالضّيق" بلغ مداه بُعيْد "الثورة المَحْنُونَه" وأنّ اليأس استوطن بالنّفوس، استمات سي حميدة في الدّفاع عن الشأن العام في "مدينتنا" ضدّ «إسلام الجَهَلةِ السّذّج" إلى أن تمّ إيقافه بتهمة الإرهاب لينتهي به المشوار في مستشفى الرّازي للأمراض العقلية والنفسية.
لكن يبقى السّرد المشبعُ بمعجم الروائح الرّابط َ الأقوى بين أجزاء الثلاثية حيث لا تزال لغة الأنف أسلوبا متميّزا َللتّواصل بين الكاتب والقارئ. إنّه يعزّز، في الغربان، التواطؤ الذي كان قد نشأ بينهما في الجزأين السابقين: "ما خرجت من بيتي، وقلّما صرت أجرؤ على الخروج، إلاّ وجدتني أتساءل عن هذا البلاء العظيم كيف أصاب هؤلاء النّاس حتّى تضمّخوا بالخَسْف والذّلّ والمهانة فلم يعد ينبعث منهم غير النّتن الخبيث من الرّوائح"(21). يتشمّم سي حميدة بأنفه وبكل حواسّه الأخرى روائح "مدينتنا " بعدما هبّت عليها رياح 14 جانفي 2011. في تلك الأيام المشهودة، كان قد ساور التونسيين حلمٌ جميل سرعان ما انكسر في غضون أشهر معدودة حينما استفرد حزب "بني لحية" بالدّولة واستفحل السّجال في المجتمع حول هوية الشعب التونسي منذرا بقلاقل وهزّات كانت ستأتي على الأخضر واليابس. يفعّل حسين الواد لغة الحواس لتوصيف حالة الانسداد التي تفاقمت وقتَها في البلاد قائلا: "أصاب معظم الأنوف زكام دائم سرعان ما تحوّل إلى شقيقة وإذا كلّ يمسك باليسار برأسه متوجّعا وباليمين رأس بصلة يشمّها بين الحين والحين" ويشبّه هذه المعضلة بالزكام تجوّزا لأنّها داء من فصيلة خاصّة ينتشر بسرعة نزلة البرد ولكنّه حالة وبائية تصيب العقول. إنّ الزّكام الذي أصاب "مدينتنا" وكل المدن المجاورة وليد فيروس حضاري ومُزمِن كانت له في تاريخنا القديم صولاتٌ مدمّرة. لقد ظلّ نائما بين ظهرانينا قرونا إلى أن استعاد قدرته على الفتك في العشريات القليلة الماضية. بعد 14 جانفي 2011، اندلف فيروس "الإسلام هو الحل" في الفجوة التي أحدثتها الانتفاضة فخرج الموبوئون به على السّكّان من المساجد وعلا صوتهم عبر المآذن والوسائل السمعية البصرية وملأ السّاحات العامّة وكأنه نعيق غربان. تلك هي، بالأحرى، الصّورة التّحتية الغائمة التي يحيل عليها البناء الدرامي في الرّواية والتي لا تروم أن تتجلّى للقارئ كاملة لأنّ مكوّناتها وجزئياتها مبثوثة في ثنايا كل النصّ. يصعب على الواد توصيفَ هذا الوباء الحضاري دون استعارات مجازية، فهو "شيء كالكَلَب إذا أدرك المخ وفرّخ في خلاياه، لم يقدر عليه شيء".
يسرد سي حميدة بإطناب المآسي التي ألحقها "الإسلام الجديد" بعائلات عفراء وإيناس وأمّ سلمة والهامندي مبيّنا من خلالها كيف أحيا الإسلام الأصولي الزّواجَ العرفي وأعاد تأهيل أحكام الشريعة في الحياة الزوجية ففجّر خلايا أسريّة كثيرة، قبل أن يدفع بمناصريه المتعصبين، في خواتيم الرّواية، إلى تفجير السّوق المركزية بسيّارة ملغومة حصدت أرواحا عديدة.
3- الغربان: رواية سياسية
أنْ يسوقَ الرّوائيُّ الثورةَ التونسية كإطار عام لمَحْكِيَتِه أو أن يضمّن في سرده مواقفَه الشخصية منها، فالأمر لم يعد يمثّل حدثا في حدّ ذاته، حيث إنّ 14 جانفي 2011، كتاريخ مفصلي في حياة التونسيين، بات حاضرا اليوم في كل ضروب الكتابة وملازما لها ملازمة الملح للطّعام. أمّا أن يجعلَ الرّوائيُّ من الثورة ومن تداعياتها المباشرة موضوعَ الحبكة ذاتِها ومادّتَها السّردية الوحيدة، كما فعل حسين الواد في الغربان، فإنّ هذا المنحى لا يخلو من مجازفة على المستوى الأدبي. تجدر بنا الإشارة في هذا المضمار إلى أنّ أحداث الانتفاضة، رغم حالة من الإحباط العام، لاتزال شديدة الحساسية وتثير دوما لدى مناصريها حماسة لا تقلّ حدّة وعنفا عن مشاعر العداوة القصوى عند المناوئين لها. كما أنّنا لا نزال نعيش انفلاتا في الدّلالات والقيم يستعصي على المبدعين تصريفُه تصريفا فنّيا. فضلا عن أنّ فوضى الفعل السياسي المتواصلة لا تساعد، هي أيضا، على أَقْلَمَةِ الشّخوص السياسية الأساسية روائيا وعلى تطويعهم لمستلزمات البناء الدرامي.
لم تثن، على ما يبدو، هذه الإشكالات العديدة حسين الواد عن مشروعه. فالغربان رواية سياسية خالصة لأسباب عديدة لعلّ السجال السياسي الدّائر منذ 2011 إلى اليوم يُعدّ من أهمّها إذ أنّ وقائعَه المعلومة تشكّل محور أقسام الرّواية الثّلاث: الانتفاضة، انتخابات 2011، حملات التكفير، اغتيال بلعيد ثم البراهمي، أزمة الدّستور، ظروف التسفير إلى سوريا والعراق، إلخ. لا يعيد الواد سرد تفاصيلها وإنّما يذكّر بها كتواريخ فارقة في تلك الفترة راصدا صداها في نفوس شخصيات مأزومة من صنع خياله مثل سي حميدة والسُّسلوج وصالح الأعور وسويلم الحوّاف ومحمود طُرباقة. فهو يسعى إلى تثبيت تلك الأحداث في زمن روايته، الواحد تلوى الآخر، كمن يحاول تثبيت علامات مرورية على قارعة طريق دكّها زلزال فأتلف معالمها وغيّر وِجْهتَها. يكشف الواد عن هويات الفاعلين الحقيقيين في الصراع السّياسي بأسلوب مراوغ يعتمد اساسا على الكِناية. فكثيرا ما يُحيل على أفعال هؤلاء إحالة صريحة ومباشرة لكنّه يكنّيهم بما اشتهروا به دون أن يسمّيهم بمسمّياتهم المُتدَاوَلَة في الساحة السياسية التّونسية.
في محكيّة الغربان، قلّت زيارات رموز "حزب الملتحين" ل «مدينتنا" إثر فوزهم بالانتخابات فتحصّنوا بالعاصمة متحاشين غضب العامّة بعدما أخلّوا بوعودهم الانتخابية إخلالا فضيعا. في واقع الأمر، لا يختلف حالهم عن حال أعدائهم المهزومين، أصحاب "الصفر فاصل" الذين أحجموا، هم أيضا، عن التواصل مع عموم المواطنين وانكفأوا، من هول الصّدمة، إلى مقرّات تنظيماتهم المركزية. فأضحت العاصمة، في الرّواية، ملاذا لهم جميعا وقاعدة خلفية تُدار منها، لكن عن بعد، المظاهراتُ والمظاهراتُ المضادّة في المدن والقرى الدّاخلية. كُلٌّ يعوّل على أتباعه ومناصريه ب"مدينتنا". إنّهم شخوص عاديون جدّا ومُسَيّسون بالمعنى السّلبي للكلمة ناهيك أنّ أغلبهم ينتمي إلى فريق" الله يُنصُرْ مِنْ صْبَحْ" ويلتحفون بالإسلام مزايدة على غيرهم وتزلّفا للحاكم الجديد فيما تسعى مجموعة صغيرة متعلّمة وشبه مثقّفة تتكوّن من السُّسلوج والمهندس المعماري والأستاذ النّبه إلى التصدي لهم رافعة في وجههم حصيلة الحداثة التونسية. كانت مقاومة هؤلاء للمدّ الأصولي دون فاعلية تذكر لأنّ عددهم قليل ورصيدهم السّياسي والفكري هزيل. فلا يعدوا أن يكونوا بقايا حركات يسارية أنهكها التّشظي (ماركسية-قومية – نقابية-حقوقية) أو مخلّفات لتجارب سياسية فاشلة في ستّينات القرن الماضي، كتجربة التعاضد التي كان قد عاشها وروّج لها الرّاوي الرئيسي، سي حميدة، عندما كان بوقا للدّعاية الرّسمية آنذاك.
4- الثورة المَحْنُونَةُ: من الاصطفاف السياسي إلى المطارحة الفكرية
منذ اليوم الأوّل من الانتفاضة ما فتئ سي حميدة يجوب شوارع المدينة ليمرّ على دكاكين الحلاّق والميكانيكي وبائع العجلات المطّاطية وغيرهم للمجالسة، حيث يتسقّط الأخبار ويتفاعل مع الأحداث الجديدة محلّيا ووطنيا. ولكنّه في كل مرّة، يعود أدراجه إلى بيته أكثر إحباطا من سابقاتها. يمضي يومَه وجانبا كبيرا من ليله في حيرة من أمر الانتفاضة الشّعبية التي أطاحت بالنظام بسرعة كبيرة ويبقى مشدوها لا يصدّق كيف بُدِّلَتْ وجهتُها بسرعة أكبر من "ثورة الكرامة" إلى مشروع إسلامي وماضوي: "كلّما رغبت في أن أفهم ما جرى للنّظام حتّى أنهار بهذه السّرعة وجدتني كمن يقبض على الرّيح. وما فكّرت في فوز الملتحين في الانتخابات إلاّ أصابني شيء من الكدر".
من البديهي أن حسين الواد لا يخفي، عبر خطاب سي حميدة المناوئ لفترة الترويكا، مناهضتَه الشديدة لحكم الجماعة وحرصَه على التشهير بما يعتبره تحيّلا سافرا منهم للالتفاف على السلطة السياسية باسم الدّين. بل إنّه لا يرى في خطابهم المقدِّسِ "للسّلف الصّالح" ولطقوس الموت ولليومِ الآخرِ إلاّ نذيرَ شؤم على الحياة العامّة والخاصّة، وما اختيارُه «الغربان" عنوانا لروايته إلا ّتعبيرا صريحا عن إدانته لمشروعهم السياسي والفكري. لكن إذا كانت مواقفه السلبية منهم على هذه الدّرجة من الوضوح، فإنّها تثير فينا، أيضا تساؤلا ملحّا حول صورة الفاعلين السياسيين الآخرين لكي نتبيّن إن كان تشهيره في الغربان بتجربة حكم الإسلاميين يضمر انحيازا ضدّهم دون سواهم.
لم يَرُمْ سي حميدة الانخراط في حزب سياسي بعينه بيد أنّه كان متورّطا حتّى أذنيه في الصراع المجتمعي الدائر آنذاك. فيما كان لا يخفي كرهه ل«بني لحية" ولأطروحاتهم كان يبدي تعاطفا كبيرا مع أصدقائه العلمانيين ولا يتوانى في مساعدتهم كلّما أمكن له ذلك. في عدّة فصول من الرّواية ينتصر سي حميدة لهؤلاء ويندّد بأولئك، فيتقاطع خطابه، بالتّالي، مع الحجاج السّياسي المُتَداوَلِ والمناهض للحاكم الجديد. كما أنّ تقييمه للأحداث يتأثّر بالمزاج العام ويبدو موقفه منها إبّان وقوعها موقفا مُتشنِّجا وانفعاليا. تراه طورا يبكي الثّورة معتبرا إيّاها فرصة تاريخية مهدورة فيصفها ب"الثورة "المغدورة" و يجاري، طورا آخر، الذين يَحْمِلون عليها وينعتُونها ب«المَحْنوُنَة" وكأنّه يشاركهم خيبتهم الكبيرة من الثورة ذاتِها.
رغم حبّه مجالسةَ أصدقائه، فإنّ سي حميدة ينزع إلى الخلوّ بنفسه ليستجلي بِتَروٍّ حقيقة ما حدث في تونس سنة 2011 إذ تتخلّل سرده للأحداث ومضاتٌ من التفكير المكثّف تسمو بصاحبها عن الصخب السّياسي العام لتبوّئه منزلة المُثقّف الذي يسعى جاهدا إلى تفكيك البنى الفكرية للحركات التي ركبت الانتفاضة وأجهضتها. إذا كان على قناعة راسخة بأن المقاربة الدينية للسّياسة ولإدارة الشأن العام أنّما هي مقاربة قروسطية قد تجاوزتها البشرية، فإنّ نقده لمظاهر الطّغيان يطال العلمانيين أيضا ليضع الماركسيين والقوميين وبُناة الدولة الوطنية في خانة الحركات الكليانية التي تكرّس الاستبداد كلّما تمكّنت من الوصول إلى سدّة الحكم:"أن يمسك الملتحون بالمقود لا يختلف، في جوهره، عن أن يمسك به العلمانيون أو عمّا أتته الحكومات التي تعاقبت على بلادنا قبل الاستقلال وبعده. رأيتهم جميعا يتغنّون بالحرّية في شقّهم الطريق نحو الاستبداد والطغيان." لكن سؤاله المحوري في الغربان يحوم حول الانتفاضة ذاتها. لقد أقضّت مضجعه وكانت سببا رئيسيا في التلف الذي أصاب مداركه العقلية. لا يخفي سي حميدة إزاءها وإزاء عموم التونسيين شعورا عارما بالخطيئة. يقرّ مرارا بأنّ الانتفاضة أوقعت به وأتت من حيث لا يعلم فيما كان يعتقد سابقا أنّه قادر، كمثقّف، على استشراف التحوّلات: "أستغرِبُ أن أعْمَى عن الثورة، فلا أراها، عيانا أو احتمالا، قادمة" وتضاعفت محنته عندما مرّت كالإعصار دون أن يتوصّل إلى فكّ رموزها.
بتركيزه في الغربان على مأساة سي حميدة، يناقض حسين الواد منطق الخطاب السّائد حول الثورة التونسية مبيّنا أنّ الخلل لا يكمن فيها بالضرورة. بل إنّه يشدّد في سرديته للأحداث على الإخلالات التي ارتكبها السياسيون في حقّ الانتفاضة وعلى عجز المثقّفين عن فهم معانيها وعن معاضدتها بالنقد والتحليل. في الواقع، لا يحمّل حسين الواد المثقّفَ إلاّ وسع ما يتحمّل لأنّه بات اليوم قاصرا عن أداء وظيفته الفكرية بوسائل قديمة في مجتمع جديد ومُعَوْلَم. فالموت البطيء للرّاوي الرّئيسي في الغربان إنّما يرمز، فيما يرمز إليه، إلى النهاية الحتمية لدور المثقّف التقليدي وإلى وجوب البحث عن مقاربة مغايرة للشأن الثقافي في زمن السّيبِرْنِطِيقَا والهاتف المحمول ومواقع التواصل الاجتماعي.
شعبان الحرباوي