نور الدين العلوي والمحرقة المنشودة: قراءة فكرية لأثر أدبي
نورالدين العلوي، جحر الضبّ، دار الجنوب، مارس 2017، 262 صفحة، الثمن:13.000 د.ت، ISBN 978-9938-01-109-8
لست مع الرأي الذي يغلّبُ في الرّواية بُعدَها الواقعي على بُعدها الخيالي وكثيرا ما كنت أتحاشى الخوض في الحدّ الفاصل أو الواصل بينهما، لأنّه مسعى يفضي عادة إلى حلقة مفرغة شبيهة بحكاية البيضة والدّجاجة لاستحالة التمييز بين البعدين. فضلا على أن النقد الأدبي قد تخطّى المسألة الواقعية بعدما كسرت الرّواية المعاصرة حدودا كثيرة وانفتحت على ضروب شتّى من الكتابة فتداخلت فيها أجناس أدبية متباينة. بيد أن رواية نور الدين العلوي الأخيرة، جحر الضبّ، تحثّ قارئها حثّا على استحضار الواقع التونسي وتستهويه بمتعة المقارنات والمقابلات والموازنات بين المُتَخَيّلِ والمَعِيشِ لأنّها تزخر بشخوص اجتماعية وسمتها الحقبة التي سبقت 14 جانفي وسما مخصوصا. فكلّما حاول أن ينصرف إلى الحكاية الماثلة في متن الكتاب دون غيرها إلاّ واستدرجته الأحداث وشخوصها خارج الرّواية لترمي به، وهو في غفلة من أمره، في "تنبك" الرّاهن التونسي.
من هذا المنظار، تكتسي التواريخ التي تحف بولادة النص وبصدوره أهمية قصوى إذ أنّها بقدر ما تساهم في بلورة المقاصد تكشف أيضا، كما يقول توفيق بكار في خاتمة تقديمه للرّواية، عن مدى التشابك بين" التاريخ" و"التخريف".
1- الرّواية والثورة
لقد صِيغَ نصُّ هذه الرّواية واكتملت كتابته قبل الثورة التونسية بثلاثة أشهر. لكنّها لم تنشر إلاّ في الثلاثية الأولى من 2017. تتعدّد في جحر الضبّ أوجه الشبه بين شخوصها الورقية وبعض أعلام الواقع المعيش لترتقي، في بعض الأحيان، إلى درجة من التطابق المربك بين العالَمَيْن. بعد طول المعاناة من البطالة والتّهميش سلّم البطل الروائي، حمّادي، بخيارين لا ثالث لهما، فأصبح يردّدهما في صبيحة كل يوم من أيّامه البائسة قائلا: «الخياران لدي الآن، وأنا أقف على مكان ليس لي إما أن احترق من تلقاء نفسي وانطفئ أو أن أحرقهم وأحترق. لن أسأل أي الحريقين أفضل، ما دامت رائحة اللحم تفوح في خياشيمي فلأكن بعض الوقود. فهذا المكان لم يعد يولّد إلا رغبة في الحريق. "
بقي حمّادي ورفيقته سعاد مسكونين بهذه الفكرة ومتمسّكين بالاحتراق خيارا مركزيا دون أن يمرّا إلى التنفيذ، حتّى جاء رديفهما في الواقع، محمد بن الطيّب البوعزيزي، فأقدم على إضرام النار في جسده صباح الحادي من ديسمبر 2010 احتجاجا على ما ألمّ به. وكأنّني بالبوعزيزي نزل برجليه من العالم الافتراضي الذي بَنتْهُ الرواية، وكأنّ انتحاره حرقا إنّما هو امتداد وتتمّة لمشروع كان مكتوبا في النصّ وبات محتوما في الواقع. صحيح أنّ البوعزيزي، البقّال المتجوّل، لم يكن خرّيج جامعة كبطلي الرّواية، لكن وجب التذكير أنّ شبّانا، بعد البوعزيزي، حاولوا الاحتراق ومنهم من مات متأبّطا شهادة جامعية من صنف تلك التي حصل عليها حمّادي وصديقته، فاختلطت شحوم لحمه المشوي بمداد ورق الشهادة المتفحِّم.
قد يطول الحديث في "التواطؤ" بين النّص الرّوائي والأحداث التاريخية التي تلته. لا غرابة في أن يستبق نور الدين العلوي التاريخ. فلا هو من النبيئين ولا هو من هواة التنجيم وإنّما استعان، لبناء نظرته الاستشرافية، بما جادت عليه مباحثه السوسيولوجية من مؤشّرات وعلامات وقرائن حول تلك الفترة الطويلة فكشف في جحر الضبّ، فضلا عن المآسي التي نعرف، عن بنية ذهنية انتحارية لدى جيل كامل من المعدَمين والمعطّلين.
نتبيّن اليوم، ونحن على مسافة زمنية وفكرية ممّا سبق الرابع عشر من جانفي 2011 وممّا تبعه، أنّ نور الدين العلوي التقط لحظة تاريخية فارقة لا تضاهيها ثراء وتعقيدا حتى أيّام الثورة نفسها. لقد اكتمل المشهد في أواخر حكم بن علي: ازداد تفكير الناس سطحيّة وازدادت آفاق الشباب انسدادا وتحوّل وجع "الحُڤرة" لدى سكّان تونس العميقة والفئات الفقيرة إلى حُرْقة كانت تشير إلى لهيب قادم. لقد أينعت الرّؤوس، آنذاك، وحان قطافها روائيا قبل أن تلفحها نيران الثورة الدّاهمة وأن "تْشُوشِطْهَا" وتزيلَ منها آثار الجرم المجتمعي في حق الشباب التونسي. إنّه قنص روائي ثمين لا يقدر عليه إلاّ من توفّر على قدر كبير من النباهة الفكرية وعلى دربة روائية ليطوّع مادّة اجتماعية بتلك الدّسامة.
إنّي لا أجادل، إذا، مشروعية المقاربة "الواقعية" التي تنتصر للنظرة الاستباقية في الرواية وهي، كما أسلفت، محقّة في ذلك إلى حدّ كبير. بيد أنّ الربط شبه الآلي بين الفعل المُتَخَيَّلِ من ناحية والحدث التاريخي من ناحية أخرى قد يرتهن دلالات الرواية ليجعلها حبيسة تلك الأحداث بعينها ويعتِّمُ بالتالي على مشغل فكري لا يقل قيمة عن التاريخ في جحر الضب.
2- سَانْدْرُوم المتنبّي
لا تحتوي الرّواية على أحداث كثيرة ويدور جلّها في عمارة سكنية راقية بالعاصمة حيث يعمل حمّادي عونا لنقيبها المُكنّى بالدّبّير. يمضي نهاره في استقبال الحرفاء وقضاء حوائج المقيمين وخاصّة المقيمات منهم، وينام ليلا بمعية صديقته سعاد في حجرة تقع في مأوى السّيارات. وهي عبارة عن غرفة يتيمة، شديدة الضيق وبلا نوافذ لا تعدو أن تكون، كما ورد في العنوان، جُحْرا لِضَبّ أو لكائن غير آدمي، مُنذِرة منذ البدء بانسداد الآفاق جميعها أمام هذا الثنائي.
في صفحاتها الأولى، تتماهى جحر الضب إلى حدّ كبير مع سرديات النزوح من القرية إلى المدينة حتى بدت لي وكأنّها تعيد تأهيل أغراض سردية قديمة، لا سيما تلك التي تبدأ بأحلام تُزهِرُ في القرية لتذبلَ في الحاضرة. فتلك معضلة ستينات القرن الماضي التي صوّرها عبد القادر بالشيخ في روايته اليتيمة ونصيبي من الأفق. لا أدري إن كان هذا التماهي مقصودا، فربّما كان ذلك من المؤلـّـف إلحاحا على أنّ ثنائيّة القرية والحاضرة قضيّة اجتماعيّة مزمنة في بلادنا، وإن تجلـّـت في صور مختلفة على مرّ الأيّام. لكنّ النص ينزاح سريعا عن هذه الأغراض المألوفة ليطرح إشكالا حضاريا متجاوزا مظاهر التهميش، قديمها وحديثها، ليطال البنى الذهنية لدى التونسيين عموما ويعرّي بالخصوص على اهتراء بعض البنى الفكرية لدى النخبة المثقّفة.
لقد استنفد نور الدين العلوي قاموس "الحرق" ووظّف مشتقّاته اللغوية ودلالاته توظيفا مكثفا في ثنايا خطابه. فكان للنار، بالمفهوم الباشلاردي، دورا حيويا في الحبكة الرّوائية حيث أفرز تواترُ الوعيد بالحرق والاحتراق حالةً درامية مُبْهَمَة تُنذر، منذ البداية، بانفجار هائل سيزيد من هوله شح الهواء وضيق الفضاء. وقد زادت تجارةُ الوقود المسروق التي يتعاطاها الدّبّير خلسة الطين بلّة ، إذ قوّت من احتمال حدوث الكارثة وهو ما أدّى إلى وقوعها فعلا في خاتمة الرّواية، فاحترق الدّبّير وعائلته داخل سيّارته بالطابق السفلي للعمارة، وكان ذلك لسوء تدبيره أو بفعل فاعل.
لكن وجب التوكيد في هذا المجال على أنّ فكرة الاحتراق تحوّلت بين البداية والنهاية من رغبة جامحة في الانتقام والاحتجاج إلى مشروع شامل يتعدّى حرق أجساد الأحياء وممتلكاتهم المحسوسة ليطول لهيبُه رموزا فكرية وقيما جمعية. »صار الحديث عن الحريق، كما يقول حمادي، سرّنا المشتركَ ولهونا اليومي". صحيح أنّ حمّادي وسعاد يدرجان للتسلية والتندّر، من حين إلى آخر، شخوصا مغمورة في قائمة المُرَشّحين للحرق. لكنهما لا ينفكّان يتوعّدان بحرقِ أعلامٍ وآثار ذات رمزية فكرية عميقة، ومن أبرز الرموز المستـَـحضرة أبو الطيّب المتنبي ومنجزه الشعريّ
لم ينل كاتب أو شاعر من حظوة الحضور المكثـّـف في نصّ روائيّ ما ناله أبو الطيّب المتنبي في جحر الضبّ. لكنّه حضور من نوع خاص؛ إذ يستذكره حمادي وسعاد لتقريعه والتشهير بشعره الذي تبدّى لهما، وهما يتخبّطان في أتون البطالة والتهميش، قولا كاذبا وسخيفا. فبقدر ما يعتصران ألما من المهانة يوميا ينهالان على أبي الطيّب تجريحا وعلى شعره تشريحا مصرّيْن على تمريغ أنفه في التراب وكأنّه حي يرزق بيننا. قبل أن ينام الثنائي "في الكهف نوم بهائم مرهقة" يستحضر ديوانَ المتنبي ويستدلّ بحياته كشهادة زور طال تصديقها وغُضَّ النظر عبر الزمن عن مغالطاتها المفضوحة. فالبون شاسع بين فصاحة اللسان وحقارة صاحبها المُتكَسِّب بها، كما أنّ الهوّة عميقة بين ما ينسبه التونسيون والعرب عموما لأنفسهم من قيم نبيلة وبين مستنقع الذل والرّياء والكذب المستديم الذي هم فيه يمرحون. فهو عميد الكذّابين العرب و"طحّان..."يهزّالقفّة" للجميع ليتدبّر أمره". لم يسمع جل سكّان العمارة قط بالمتنبي. ولكنّهم يحملون بالوراثة الفكرية العميقة ذهنيته المُنشَطِرة. يعتقد الثنائي أنّ أبا الطيب المتنبي والدّبير وجهان لعملة واحدة. فكلاهما، في نظر الصديقين، سمسار وإن اختلفت البضاعة وتباينت المراتب، وكلاهما نقيب في ميدانه. فبينما يتكسّب نقيب الشعراء العرب بالقيم الجمعية، وهو في ذروة الهرم، فيقايض شعره الجميل بالمال الوفير، يتكسّب، في أسفله، نقيب العمارة مبتزّا حرفاءه ومتوسّلا المضاربة في أثمان التسويغ. يدّعي الدّبّير لنفسه جاها ووجاهة وتبدو "بهبرته"، عندما يصول ويجول في عالم العمارة الصغير، وكأنّ صنيعه سليل تلك الملاحم التي كان يدّعيها الشاعر لنفسه.
3- الفحولة المعطوبة
قد تبدو الصلة بين الشاعر القديم والمجتمع الرّاهن صلة عرضية لا يبرّرها سوى غضب شابين حالمين درسا بقسم الآداب العربية في الجامعة التونسية ليجدا نفسيهما بعد التخرّج في هامش الهامش. إنّ اختصاص العربية وآدابها بات في التسعينات، أكثر من غيره، بضاعة بائرة في سوق شغل لا تشغّل أصلا. غير أنّ الاستشهاد بأشعار المتنبّي يتواتر ويكاد يكون يوميا ليشكّل شيئا فشيئا مساءلة فكرية لأيقونة العرب ولجانب كبير من الثقافة العربية وقيمها الملتبسة بين فصاحة المتنبي الصمّاء والناصعة جدّا من ناحية وفداحة المعيش اليومي من ناحية أخرى. الكلّ يحاكي صولة الأسد والكلّ ينسب لنفسه مآثر يدّعيها لنفسه حتّى اغتالوا في العربية، كلغة تواصل، معانيَ الأشياء وحقائقَ الأمور.
إنّ قراءة متأنية لنص الرّواية توحي بأن نور الدّين العلوي يعاضد مجهود بطله في مواجهة ساندروم المتنبّي. فإذا كان حمّادي يتوعّد بحرق ديوان الشاعر ساخرا من مناقبه الوهمية، فإنّ العلوي يسعى، بوسائل روائية، إلى فضح الزيف الذي لوّث قيما إنسانية مثل الشرف وعزّة النفس. من الواضح أن العلوي اشتغل مُطَوّلا في حجر الضبّ على مفهوم الفحولة لمكانتها كقيمة محورية في المخيال العربي عموما، وفي الإرث الثقافي لأبي الطيّب تحديدا. لقد وظّف العلوي في هذا المشغل العديدَ من المواقف الدرامية والشخوص الأساسية، وتوصّل إلى أن يفخّخ الصورة النمطية للفحولة ويَنْفُذَ إلى ما وراء المرايا.
لم يمض حمّادي وقتا طويلا بالعمارة حتّى تكشّف، وراء الأبواب المغلقة، على مدى القحط العاطفي والجنسي الذي يعاني منه جلّ ساكنيها وساكناتها فتكفّل بسدّ الحاجة هنا وهناك لِمَا يتوفّر عليه من قوّة جنسية. لقد اعتلى حمّادي زوجة مُستَخْدِمه وابنتها في مناسبات كثيرة كما كان يستجيب، عند الطلب، ليضاجع أخريات كان جلّهنّ من المتزوّجات. فأضحى، فضلا عن عمله كحارس للعمارة، فحْلَها الأوحد وأمينَ سر حريمها دون أن يُثير فيه ذلك أدنى إعجاب بنفسه. بل كان يغمره شعور بالخزي لأنّ فحولته مغشوشة وشبه مأجورة فهو، في نهاية المطاف، ضحية لبغاء ذكوري مقنّع لدى نسوة "امتصّت رحيق(ه).... وشربت من مائه...وأفرغت من جهد(ه) في جوفها المفرغ من الحياة". لقد تفاقم شعوره بالمهانة لا سيما بعد أن أُصِيبَ بعجز جنسي إثر حادثة غريبة مع الفيلسوف المأبون. فحالته النفسية والأخلاقية لا تختلف كثيرا عن حالة سعاد التي امتهنت البغاء درءاً للموت جوعا.
لم يسلم أبو الطيّب المتنبّي، فحل الشعراء العرب ورأس طبقاتهم، من تبعات هذا التمثل السلبي للفحولة الجنسية. لقد أصابه نصيب كبير من الإيحاءات والتلميحات الجنسية التي نزعت عنه جبّة الفحولة الشعرية وأنزلته من مرتبة الحكيم. بسبب عدوى الدّلالات في النص، امتزج اسم المتنبّي وقوله بأسماء وأقوال شخوص ورقية سيّئة السمعة كالفيلسوف المأبون والسّيد "لطيفة"، وهو خبير شاطر في الاقتصاد لكنّه مضاجع عيي للنّساء. في خواتيم النص، يتحدّث حمّادي على المتنبّي بصيغة الماضي معلنا بذلك رغبته في التجاوز قائلا: «كان المتنبي قد صار عندنا ذكرى قديمة (...) ربّما استعاض عن فحولة الجسد بفحولة الكلام. فاللغة تسمح بالاستمناء."
لقد عمّق الحوار بين سعاد وحمّادي تجربتهما في اليأس فارتقى بها من مرتبة الحالة الشّعورية البائسة إلى مصاف التّجارب الفكرية المفصلية. " في مهبّ الأيام العادية، في مدينة لا تعطي لمن يطلب إلاّ أن يغور"، ازدادت حالهما سوءا ولكن تعزّز شيئا فشيئا اقتناعهم بأن لا جديد تحت الشمس التّونسية الحارقة صيفا والغائمة في باقي الفصول، وبأن مأساتهم أبعد من أن تكون مجرّد بطالة مهنية محلّية وعرضيّة بل هي تحيل على ثقافة انفصامية ضاربة في القِدم. ولمّا اتسع الفتق على الرّاتق واستحال الصّلحُ، كانت بداية المحرقة وكان المتنبي وأشعاره وقودها الأوّل وليس الأخير.
شعبان الحرباوي